المسارات العسكرية للثورة العربية في الأردن وسوريا

شاركت في هذه الهجمات عشائر عقيل الحجازية، والتوايهة، والرولة، وبني عطية، جنوب معان، والحويطات، والحجايا، وعشائر الكرك، وبني صخر، شمال معان.

واستكمالا للدور الأول: معارك العقبة – وادي موسى تموز 1917 – كانون ثاني 1918م، جاء الدور الثاني: الصراع على الطفيلة كانون ثاني – آب 1918م، حيث بدأ العرب في تنفيذ عملياتهم من معسـكر القويرة بدءا من النصف الأول من شهر كانون الثاني 1918م.

وتمكنت القوات العربية بقيادة الشريف ناصر من تحرير جرف الدراويش، وتقدمت باتجاه الغرب نحو الطفيلة لتلتقي مع قوات الشريف مستور، وعندما علم الحاكم التركي زكي الحلبي بقدوم القوات العربية اتخذ قراره بالانضمام إلى قوات الثورة العربية، مما دفع بالأمير زيد أن يعينه حاكما على الطفيلة، وجاءت ظروف اتخاذ قرار الانضمام للأسباب التالية:

1- عدد حامية الطفيلة الذي لم يتجاوز الـ 250 فردا، وهذا يجعلها ضعيفة أمام الهجمات العربية.

2- تأثر الحامية بانتصار العرب السريع في جرف الدراويش.

3- كان للاتصالات من قبل مشايخ الطفيلة أثرها في سرعة اتخاذ هذا القرار.

4- وجود جالية أرمنية في داخل الطفيلة، وهي التي هاجرت من وطنها بسبب البطش التركي، واحتموا في المنطقة واستجاروا بأهلها وأصبحوا مواطنين فيها، وناصرهم العرب واستمروا في موقفهم في الطفيلة كذلك.

لقد كان من السهل على القوات العربية الدخول إلى الطفيلة، فدخلتها ورفعت الرايات العربية فيها في 15 كانون الثاني 1918م، وبعد بضعة أيام دخلها الأمير زيد يرافقه راسم سردت، وصبحي العمري، وأدرك العرب حينها أن الأتراك سيقومون بهجمات معاكسة بهدف استعادة المواقع التي فقدوها، خاصة لأهمية هذه المواقع.

معركة حد الدقيق 25 كانون الثاني 1918م - مسار النصر الكبير

من أهم مسارات الجيش العربي التي سلكها وهو يخوض معركة حاسمة وكبيرة ضد القوات التي زحفت في محاولة لاستعادة الطفيلة وهيبة الباب العالي وإعادة الثقة للجنود في الجبهة بعد عدة هزائم تلقتها في جبهات مختلفة، حيث دخلت القوات العربية إلى الطفيلة يوم 15 كانون الثاني 1918م من اتجاهين، وضمت هذه القوات قوات نظامية على رأسها حامية الطفيلة وقوات غير نظامية لقوات المتطوعين بقيادة بركات المجالي ومتطوعي بني صخر والعقيلات وقوات حرس الأمير زيد، وكان يعاضد هذه القوة ويساندها رجال الطفيلة والقرى المجاورة خاصة قرية عيمة، وكذلك فرسان الحويطات والمطالقة وعلى رأسهم حمد العرار الجازي، الذي اقسم أن يضحي بنفسه في سبيل القضية العربية.

وصل الأتراك إلى القطرانة في 23 كانون ثاني 1918م، وتقدموا إلى الطفيلة واشتبكت القوات التركية مع القوات العربية، وبدأت جموع العرب تتوافد للمعركة بعد تفرقها نتيجة معركة جرف الدراويش، بحيث حافظت القوات العربية على كثافة النيران بل عملت على زيادتها باستمرار، مما أربك الأتراك وجعلهم يعيدون حساباتهم من جديد.

واشتدت المعركة صباح يوم 25 كانون ثاني 1918م، حيث تقدم أهل عيمة وهاجموا الأتراك من الجهة اليسرى وصعدوا الجبل الحاد، وهذا كان غير متوقع بالنسبة للأتراك، الذين أصبحوا عاجزين عن استخدام أسلحتهم، كما قُتل القائد العام للقوات التركية حامد فخري، وبدأت الهزيمة تظهر في صفوف القوات التركية، وبدا واضحا للعرب أن المعركة أصبحت معركتهم وهم يملكون زمام المبادرة فيها، وكثفوا هجماتهم باتجاه العدو الذي بدأ يتقهقر.

واستخدمت في المعركة وسيلة تضليلية باستخدام "الطقاقات"، فكل رشاش له طقاقة وعند توقف الرشاش عن الرمي يقوم الجنود بضرب الطقاقة بحيث تعطي صوتا يشبه الرشاش وتوهم العدو بأن لدى العرب رشاشات كثيرة العدد وموزعة، مما حدا بحامد فخري القائد التركي أن يقول "إن العرب قد قلبوا قواعد الحرب عاليها سافلها".

وقبل غروب هذا اليوم أكمل العرب هزيمة القوات التركية وغادر من نجا من الترك إلى الكرك وغيرها، وبلغ العرب حد الزهو في انتصارهم في الطفيلة وليس أبلغ من ذلك ارتداء جندي عربي لزي القائد التركي حامد فخري بعد سقوطه صريعا، مرتديا نياشينه وأوسمته وسلاحه ليوجه رسالة معنوية فاعلة وفورية في ميدان المعركة.

وانتهت هذه المعركة بتوجيه ضربة قاصمة للأتراك، وكانت ردود فعل القيادة التركية تظهر فيها الاستياء من هذه الهزيمة، وكانت الخطة العربية أن يتقدم العرب باتجاه الكرك لكن شدة البرد ووطأة الطقس والثلوج جعل العرب يرجئون التقدم نحو الكرك، لتنفيذ مرحلة من مراحل العمليات العسكرية، إلا أن فتح الكرك تحقق من دون عمليات عسكرية.

بدأ التخطيط التركي للثأر من القوات العربية والحيلولة دون تقدم العرب لإحراز انتصارات جدية، وبدأت الاستعدادات العربية لمواجهة التطورات المستقبلية المحتملة، وأدرك العرب في الطفيلة صعوبة الموقف بسبب نوايا العدو المؤكدة للهجوم على الطفيلة بقوات كثيفة وهائلة مسندة بالمدفعية والطائرات وبقيادة تركية وألمانية وبلغارية.

وبدأ الحشد التركي في محطتي "الحسا وجرف الدراويش" بعد أن انتهت موجة الأمطار والثلوج التي شهدتها المنطقة في تلك الفترة، وتكامل الحشد وبدأ الزحف الرئيسي في 6 آذار 1918م واشتبك العرب مع القوات التركية يوما كاملا واضطر العرب للتراجع بسبب كثافة المدفعية وقوة قصف الطائرات، وقرر الأمير زيد التراجع للخلف للحفاظ على تماسك الخطوط الدفاعية وجر العدو للنزول في منطقة الأودية لكشف نفسه ولتعريضه للنيران.

صمد الأمير زيد في 8 آذار 1918م في هذا الموقع، لكن المفاجأة هنا هو انسحاب القوات التركية وعودتها إلى الطفيلة في 14 آذار 1918م، فعادت قوات الأمير زيد لترابط من جديد في الرشادية، وبعد اجتماع الأتراك في الطفيلة، قاموا بتدمير العديد من المنازل وتخريب بعض المواقع، واستمروا في الطفيلة حتى جاء الأمر المفاجئ بالانسحاب في 23 آذار 1918م، فقد أمرت القيادة التركية قواتها في الطفيلة بالانسحاب لتعزيز الجبهة حول عمان وبعد الانسحاب تقدمت القوات العربية لتدخل الطفيلة من جديد ولتبدأ الاستعدادات العربية لمرحلة جديدة من العمليات العسكرية. 

وكان للنساء دور مهم في معركة حد الدقيق، حسبما ورد في مذكرات صبحي العمري بقوله "كنا نشاهد إمرأة هنا تعبر الطريق ذاهبة، وأخرى قادمة في مهمة، وكل واحدة تشد مدرقتها بحزام، تعين جريحا أو تنقل جثة قريب لها". وأورد العمري أسماء بعض هذه النساء اللواتي تعرضن للجراح في المعركة، أمثال: ثريا خميس الدلابيح، وحسنه عبدالغني، وشيخه القيلات الزيدانيين، وصبحية الحجاج البحرات، وصبحية العمايرة، وفاطمة ضيف الله العمايرة، وفضيه عبدالرحمن الجرابعة،...الخ، وبعضهن استشهدن بعد الجرح بأيام.  

الدور الثالث : معارك معان نيسان – تموز 1918م :

عقد في 8 نيسان 1918م، مؤتمر برئاسة الأمير فيصل، تقرر فيه وضع خطة للعمليات والهجوم على معان في الفترة ما بيت 11 – 19 نيسان على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: جاءت من الغرب وأشرف على تنفيذها كل من نوري السعيد، ومولود مخلص، حيث اتجه نوري السعيد نحو محطة غدير الحاج ونجح بتحريرها في 11 نيسان، في حين اتجه مولود مخلص بمساعدة عودة أبو تايه، وبعض القوات الفرنسية نحو معان في 13 نيسان، وهو وأن نجح بالوصول إلى المحطة إلا أنه ردّ وتراجع نحو تلال السمنات في 17 نيسان.

المرحلة الثانية: بدأت من أذرح مقر قيادة الأمير زيد وكانت بقيادة جعفر العسكري وكان لها هدفان: السيطرة على محطة الجردونة وقد نجحت في تحقيقه في 13 نيسان، والسيطرة على محطة معان نفسها حيث نحجت في الوصول إليها في 16 نيسان، ولكنها اضطرت إلى الانسحاب غربا.

المرحلة الثالثة: جرت جنوب معان بإشراف الشريف ناصر، وهدفها تل الشحم وجرت في 19 نيسان 1918م، حيث نجحوا في تحريرها وغنموا غنائم كبيرة.

هكذا نجح هجوم نيسان الأول على معان من محاورة الثلاثة في السيطرة على محطة غدير الحاج، والجردونة، وتل الشحم، ولكنه فشل في تحرير محطة معان نفسها. ورغم هذا الفشل إلا أن الجنود أثبتوا أنهم على مستوى ممتاز من التدريب والضبط والتحمل.

تكررت الهجمات العربية على محطة الجردونة، حيث شارك متطوعون من اللياثنة والمناعين والشوابكة والنعيمات والرشايدة والعمارين، إلا أنها بقيت بيد الأتراك إلى أن انسحبوا منها في 24 أيلول 1918م.

وفي آب 1918م أرسلت سريتا هجانة إلى العقبة وتوجهت إلى محطة المدورة، حيث نجحت في 8 آب في السيطرة على المحطة وتدميرها، وفي هذه الأثناء عانى الجيش العربي الشمالي من أحوال الطقس، وقلة المؤن والعتاد والتجهيزات والأسلحة ووسائل النقل.

التحشد في منطقة الأزرق

كلف الجيش العربي الشمالي بنقل قاعدة عملياته من القويرة إلى الأزرق، كقاعدة أمامية متقدمة تشن منها الهجمات على درعا، ومنها مواصلة التقدم شمالا نحو دمشق، وجرى في منطقة أبو اللسن عقد اجتماع برئاسة الأمير فيصل، وحضور الضباط العرب وبعثة الارتباط البريطانية وتقرر فيه تقسيم الجيش الشمالي إلى مجموعتين:

المجموعة الرئيسية أو جسم الجيش: تبقى بقيادة الأمير زيد، وجعفر العسكري في أبو اللسن، وسمنه، حيث كلفت بالضغط على الفيلق التركي في معان وعلى طول السكة من معان إلى عمان مع إرسال رتل إلى مادبا.

المجموعة الثانية: كانت قوات متحركة تضم نظامين وغير نظاميين تتقدم إلى منطقة التحشد في الأزرق، ومن هناك تؤسس قواعد أمامية متقدمة لشن الغارات على سكة الحديد في أماكن متعددة ومختارة.

 تألفت القوات المتحركة التي تقرر حشدها في الأزرق بقيادة الأمير فيصل من قوات نظامية وغير نظامية، بقيادة الشريف ناصر بن علي، ونوري الشعلان، وعودة أبو تايه "من عشائر الروله، والحويطات، وبني صخر والسرحان"، ورافقتهم وحدة طبية ميدانية عربية.

 وبدأت الحملة سيرها في 28 آب 1918م ومرت في جنوب معان في طريقها إلى الجفر ثم إلى باير، ومنه إلى العمري فالأزرق الذي وصلته في 6 أيلول وبعدها جاء الأمير فيصل يرافقه ضباط عرب.

ويبدو أن تحركات العرب لم تكن خافية على الأتراك، فقد قامت قواتهم في 6-8 أيلول بهجوم مباغت على تلال السمنات من ناحية، وعلى وادي الحسا إلا أن القوات العربية استردت تلال السمنات وأرغمت الأتراك على الانسحاب إلى الرشادية فالطفيلة، وكان الأمير فيصل قد مهد لهذا العمل العسكري بإرسال الشريف ناصر، ونسيب البكري، كممثلين له وزودهما بكتاب إلى القبائل العربية للتعاون معهما من أجل العمل على تحرير بلادهم، ولقيت دعوة الأمير فيصل استجابة لدى القبائل العربية في وادي سرحان، وحوران، وجبل الدروز، ولدى رجال الجمعيات مثل: الدكتور أحمد قدري، ورستم حيدر، وتحسين قدري، وخليل السكاكيني، وسليم عبدالرحمن، الذين التحقوا بالأمير فيصل في أبو اللسن.

 استمرت جموع القبائل تأتي إلى الأمير فيصل بعد وصوله إلى الأزرق، يؤيد ذلك ما جاء في برقية للأمير زيد في 18 أيلول 1918م، والتي جاء فيها "الأحوال على ما يرام وصل إلينا نوري الشعلان بجموع كثيفة، ومعه الدروز وكل يوم الوفود في ازدياد. أهل حوران ينتظرون أمرنا بالحركة".

عزل درعا

بدأت العمليات ضد خط السكة في 13 أيلول 1918م، حيث نجحت القوات العربية في الفترة ما بين 14-16 أيلول في نسف محطتي نصيب جابر لقطع الاتصال بين درعا وعمان، وعاودت الهجوم على هذه المنطقة في 18 أيلول.

في 17 أيلول نجحت قوة نظامية بقيادة نوري السعيد تساندها قوات غير نظامية، إضافة إلى متطوعين من الحجاز وقرى حوران، في تحرير تل عرار شمال درعا بالرغم من غارات الطائرات الألمانية التركية.

ومن تل عرار على بعد 6 أميال شمال درعا، تحرك نوري السعيد بقوة نظامية قوامها 350 مقاتلا ومجموعة من البدو بقيادة الشريف ناصر بن علي وسرية هجانة، ومدفعين فرنسيين، إلى قرية المزيريب، حيث أتلفت مسافة ثلاثة كم من خط السكة، وبهذا قطع الاتصال بين درعا وفلسطين، ودرعا ودمشق إلا أن القوة العربية لم تنجح في نسف محطة تل شهاب بسبب وصول قوات ألمانية تركية لتعزيز حامية درعا، وبحلول مساء 18 أيلول 1918م، نجح العرب في عزل درعا من الشمال والجنوب والغرب.

السيطرة على معان وعمان

صدرت الأوامر للقوات التركية في معان في 22 أيلول بالانسحاب بعد أن ألغت هجوما قام به رتل تركي على وهيدة فاغتنم الأمير زيد، وجعفر العسكري، الفرصة فحررا معان في 23 أيلول، وراحت القوات العربية بقيادة الأمير زيد تتعقب القوات التركية المنسحبة لتحتل المواقع التي تجلو عنها كالجردونه، وجرف الدراويش، وتحريض السكان لإعاقة انسحابهم الأمر الذي حال دون وصول حامية معان إلى عمان، وتم اعتراض حامية معان المنسحبة، والتي كان الأهالي حاصروها، واستسلمت في 29 أيلول 1918م في الجيزة.

تحرير درعا 27 أيلول 1918م

بقيت القوات العربية التي ساهمت في عملية درعا بين الصخور البركانية حتى 24 أيلول، وكانت تهجم في الليل على قطار أو جسر لتدميره، فلما بدأ الانسحاب التركي العام تعرضت لها قوات الهجانة العربية بشكل مناوشات.

وفي ليلة 25-26 أيلول قامت قوة عربية من قرية النعيمة الأردنية، جنوب اربد، برئاسة نوري السعيد، والشريف ناصر بن علي، ونوري الشعلان، وعودة أبو تايه، واتجهت شمالاً فنجحت في 27 أيلول في تحرير محطة أزرع، وغزالة، والشيخ مسكين، وشيخ سعد، وتل عرار، وشارك الأهالي في قرى حوران القوات العربية في هجماتها. وفي مساء 29 أيلول انسحبت آخر وحدة تركية من درعا، فدخلتها القوات العربية.