حكم الإمبراطورية العثمانية، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، السلطان عبدالحميد الثاني، وشهد حكمه مرحلة من أخطر المراحل التي مرت بها المسألة الشرقية، فحلت بالدولة خلالها كارثة كانت من أعنف ما واجهها، وأصبحت الدولة العثمانية تعرف باسم "الرجل المريض" في أوروبا.

كان السلطان يعلم تزايد مشاعر الاستياء، وتفاقم الحركات الثورية في ممتلكات الدولة الآسيوية، فاستبد به الذعر من جراء هذه الحركات، ولا سيما أن إدارة الولايات العربية كانت لا مركزية إلى حد كبير، مما دعاه إلى التشديد من رقابة الأستانة عليها، وبالتدريج أصبح يزيد من فرض قبضته الحديدية على هذه الولايات.

اضطر عبدالحميد في بداية حكمه إلى قبول دستور مدحت باشا، وأصبح لفترة من الوقت حاكما دستوريا، واجتمع البرلمان العثماني الأول في 19 آذار 1877م في قاعة الاستقبال الضخمة في قصر "ضولمة باغشه"، حيث استمع إلى خطاب العرش الذي ألقاه السلطان، ولكنه ما لبث أن أصدر أمرا بحل البرلمان وتعليق الدستور إلى أجل غير مسمى، وطلب من النواب المستنيرين، الذين عرفوا بانتقاداتهم لسوء الإدارة والحكم العثماني، مغادرة الأستانة، وكان من بين هؤلاء عدد من النواب العرب البارزين.

ونتج عن سياسة الكبت والضغط على الحريات التي اتبعها عبدالحميد أن أخذت الحركات الإصلاحية، وجميع الحركات المعارضة له، تمارس العمل السياسي في الخفاء أو في خارج حدود الإمبراطورية العثمانية، وبصورة خاصة في باريس ولندن وجنيف والقاهرة بعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م. ومن هنا كان قيام الجمعيات السرية، التي أخذت تعمل لإدخال الإصلاح في البلاد العربية وفي بعض الحالات المتطرفة، تسعى لتحرير العرب تحريرا كاملاً من الحكم التركي ومن أية سيطرة أجنبية.

المنشورات الثورية

لما اشتد ساعد الحركات المعادية للأتراك، أخذت توزع منشورات ثورية في مدن مختلفة في الإمبراطورية العثمانية. ففي 9 تشرين الأول 1879م، قدم ديلابورتيه، القنصل في بيروت، وكان على ما يبدو قد علم بوجود جمعية سرية في المدينة، تقريراً إلى وادنجتون وزير الخارجية، ذكر فيه احتمال وجود خطة عربية لها اتصالات في حلب والموصل وبغداد ومكة والمدينة، تسعى لتأسيس مملكة عربية.

وكان القنصل أكد، في تقريره، أن الأمر كله كان مجرد إشاعات، وهو ليس في وضع يمكنه من إثباتها، وأن ما يعم الإمبراطورية العثمانية من فوضى وسوء إدارة شاملين يجعل تحقيق هذه الخطة من الإمور غير البعيدة ولا المستحيلة.

من جهته، أشار سنكويز القنصل الفرنسي في بيروت، في رسالة بعث بها إلى وزير الخارجية في 2 حزيران 1880م، إلى ظهور منشورات في بيروت ودمشق في الآونة الأخيرة تطالب بالاستقلال الذاتي لولاية سوريا، وكانت هذه المنشورات صغيرة الحجم تعلق بعد منتصف الليل على جدران الشوارع بالقرب من قنصليات الدول الكبرى في مدن سوريا المختلفة، وخاصة في بيروت ودمشق وطرابلس وصيدا، وتضمنت مخاطبة العرب ومحاولة الضرب على وتر وطنيتهم وماضيهم العظيم، وتدعوهم إلى النهوض والثورة لطرد الأتراك من الأرض العربية.

وفي 28 حزيران 1880م، قام القنصل البريطاني العام بالوكالة في بيروت بالإبراق إلى السفير البريطاني في الأستانة، يعلمه بأن المنشورات ظهرت في بيروت، وهي "تدعو الناس إلى الثورة على الأتراك".

وظهرت منشورات أخرى، ففي بغداد ظهر منشور ثوري باللغة العربية وكان واضحاً أنه مطبوع في لندن، يدعو العرب ومسيحي سوريا أن يتحدوا ويحرروا الأمة العربية من الأتراك، وكان عنوان هذا المنشور نداء للأمة العربية من "جمعية حفظ حصوص الملة العربية" ومؤرخاً في 19 آذار 1881م، إلا أننا يجب أن لا نبالغ في أهمية هذه المنشورات، فلا يجوز أن نعتبرها جزءاً من محاولة منظمة واسعة الانتشار من جانب العرب المسلمين للانفصال عن الإمبراطورية العثمانية وتأسيس دولة عربية مستقلة.

لم يكن القادة المسلمون المستنيرون يفكرون في تحطيم السيادة العثمانية التي كانت سيادة إسلامية، ولا في الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية التي كانت الإمبراطورية الإسلامية القوية الوحيدة الباقية، فكل ما كانوا يطلبونه هو تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية. أما الثوريون من العرب فقد كانوا يطالبون بالحكم الذاتي أو الاستقلال الداخلي ضمن الإمبراطوية العثمانية.

سوء وتدهور الوضع بالداخل

ومع نهاية القرن التاسع عشر، أخذ الوضع في الداخل يزداد سوءاً وتدهوراً، وانتشر التذمر والفساد والفوضى بسرعة تنذر بالخطر . وفي مطلع شباط 1894م كتب السفير الفرنسي في الأستانة، في تقريره، الذي رفعه عن المسألة الأرمنية، إلى كازمير- بيرييه وزير الخارجية الفرنسية، كتب يقول إن الوضع لم يكن خاصاً بأرمينيا وحدها بل شمل الإمبراطورية بأسرها، فاليونان والألبان والعرب كانوا يشكون من انعدام العدالة وفساد الحكومة وفقدان الأمن على الحياة.

وكان أعضاء جماعة "تركية الفتاة" هم الذين تحركوا للعمل في مطلع القرن العشرين لإنقاذ الإمبراطورية العثمانية من الانحلال التام والزوال، واستهدفت هذه الجمعية إقامة حكومة برلمانية في الإمبراطورية بإعادة دستور مدحت باشا عام 1876م، ووضع حد لتدخل الدول الأوروبية فيها، وجعلت سالونيك في مكدونية مركز القيادة الحساس، حيث تمكنت من كسب تأييد القطعات العسكرية المرابطة فيها.

وأجبرت ثورة تموز 1908م عبدالحميد على إعادة العمل بدستور عام 1876م، وقابل العرب والترك هذا العمل بابتهاج عظيم، وإقيمت الحفلات والاستقبالات والمهرجانات، ونقشت كلمات "حرية، مساواة، عدالة" على الأعلام العثمانية، إلا أن عبدالحميد كان صمم منذ اليوم الأول على التخلص من جماعة تركيا الفتاة ومن الدستور، ومن البرلمان الجديد، ففي 13 نيسان 1909م قامت محاولة في الأستانة لإشعال نار ثورة مضادة، إلا أن الجيش في مكدونية بقيادة شوكت باشا كان على أهبة الاستعداد، فتحرك نحو العاصمة وحاصر قصر السلطان "يلدز"، وفي 27 نيسان خلع عبدالحميد عن العرش ونفي إلى سالونيك.

وتبين بعد فترة أن جماعة تركيا الفتاة لم يكونوا عازمين على تنفيذ وعودهم بمنح المساواة لجميع الرعايا العثمانيين دون تمييز في الدين أو الجنس، وكان هذا مدعاة لحدوث الشقاق بين العرب والترك، ووجدت شكوك العرب في إخلاص جمعية تركيا الفتاة ذات الطابع المتطرف عن نفسها، واصطدمت مع كرامة العرب وكبريائهم وتمسكهم بقوميتهم ودينهم ولغتهم.

الحركة العربية الانفصالية

يستطيع المرء أن يقرر أن بذور الحركة العربية الانفصالية أخذت تنبت وتنمو من خلال السياسة القومية التركية منذ عام 1909م وما بعدها، فكان من نتيجة سياسة "التتريك" التي اتبعها رجال "تركيا الفتاة" أن وجدت أهداف القادة العرب لتحقيق الاستقلال القومي الكامل دافعا قويا لها، فحين اتخذ الاتحاديون من القومية مثلهم الأعلى ومن تفوقهم العنصري أساساً لتركيا جديدة قوية موحدة سياسيا وثقافيا، وكان رد الفعل لدى القادة العرب التفكير في مستقبل البلاد العربية بالطريقة نفسها تماماً، فقام المستنيرون والمثقفون العرب بتأسيس عدد من الجمعيات والأحزاب السياسية العربية للدفاع عن القضية العربية وحماية الحقوق العربية. وكان من بين هذه الجمعيات التي تشكلت بعد عام 1908م الجمعيات التالية:-

جمعية الإخاء العربي العثماني، والمنتدى الأدبي، والجمعية القحطانية، والعلم الأخضر، والعهد وجميعها تأسست في الأستانة، إضافة إلى جمعية بيروت الإصلاحية، وجمعية البصرة الإصلاحية، والنادي الوطني العلمي، الذي تأسس في بغداد، والمنظمتين المهمتين جداً:- الجمعية العربية الفتاة، التي اشتهرت باسم الفتاة، وحزب اللامركزية الإدارية العثمانية.

المطالب العربية

وحسبنا أن نؤكد أن القادة العرب طالبوا عن طريق هذه الجمعيات، وخاصة الفتاة وحزب اللامركزية بحكومة دستورية نيابية تضمن الحقوق والفرص المتساوية لجميع العناصر المختلفة التي تؤلف الإمبراطورية.

وطالب العرب كذلك باعتبار اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللغة التركية في الولايات العربية من الإمبراطورية العثمانية، ولكن حرص الاتحاديون، أكثر من أي وقت مضى، على الإبقاء على الإمبراطورية "تركية الصفة والطابع"، وعلى المحافظة على مركزهم المسيطر المتميز.